قصة قصيرة
محمد السيد
اهتزازات متتالية، كزلزالٍ شقّ السَّماء، رجّ قلوبنا، وتلتل دموعنا، تكبير، صياح، بكاء، نواح، أعين تتحرك بسرعة، قلوب وجلة، أبصار مخطوفة، أنفاس متلاحقة، شهقات مختبئة، أطفال يبكون حسرة على دنيا لن يكملوها، كبير سن يحوقل، آخر يتلو آيًا من القرآن، وتلك تندب حظها، وتلعن السّاعة التي ركبت بها على متن هذه الطائرة، أما أنا فأصمني الذهول وشغلني مراقبة المذعورين من حولي عن الصّراخ، وتراءى شريط حياتي أمام عيني؛ زوجتي بصوتها المحتقن وهي ترجوني ألا أسافر هذه المرة ولسان حالها يقول (هذه البلدة أفضل من غيرها)، وعلى كتفها طفلنا الوحيد الذي انجبناه بعد طول انتظار، ما يقارب الأربع سنوات من مواصلة الأطباء هنا وهناك، أدوية بالآلافوليالٍ من البكاءِ والدّعاء والتّضرع والرجاء، (ناجي) صغيري الجميل لا أعرف كيف يبدو الآن وقد مرَّ أكثر من ثلاث سنوات على بعدي عنه، قضيتُ نصفها في غرفتي الصغيرة بين ثلاثةٍ من أصدقائي في فترة الوباء؛ قضيناها بين الحظر الكلي، ثمّ الجزئي، وكأننا في زنزانةٍ كبيرة حريتنا مقيدة وعالمنا ينحصر بين متعلقاتنا الشخصية الصَّمَّاء القليلة التي يمكن أن تحتويها غرفة صغيرة ضيقة لثلاثة أشخاص- ثلاثة أسرَّة حديديَّة فردية نفترشها وحدتنا،ملتحفين سقفها الشاهق وملابسنا المعلقة على الحائط، ومحاطين بثلاجة صغيرة، وطباخ قديم- كان منفذنا الوحيد ساعة التَّرجل اليتيمة التي سُمح لنا بها ورذاذ صوت الأحبَّة المتطاير من سُحب الهواتف المطلّة على ساحة آذانناالمقفرة.
الأم، الأب، الأخوة، والأخوات؛ كلٌّ يتسلل عبر هذه النافذة الصغيرة لدقائق ثم ينطوي بضغطةٍ واحدة على مفتاح إنهاء المكالمة، الليل البهيم والوحدة الموحشة وتذكر الأيام الخوالي يجبرون قلبي على البكاء من حينٍ إلى آخر،زوجتي العزيزة (حياة) أحببتها منذ يومنا الأول بالجامعة كانت تجلس منطوية بالمدرج الخاص بالنّساء، لكنها كانت تشرق بينهنّ طيلة الوقت، بعدما تخرجنا وعدتها بالزواج فور حصولي على فرصةِ عمل مناسبة؛ أتت فرصة وفرصة واشتياقي يزيد والحب يلتهب فيوخز قلبي الهائم بحبها؛ فتزوجنا ومرّت أحلى سنوات عمري بصحبتها، أزهرت بين يدي وانتعش قلبي برحيقها، برغم ما عانيناه سنوات البحث عن طفلٍ يحمل اسمي وحسنها.
مضى الوقت في رحابها سريعًا، ظلّت طفلتي المدللة وظللتُ طفلها المدلل، حتى بعدما رزقنا الله بطفلنا الجميل، كنّا بالكاد نعيش؛ الدخل المُتحصَّل يضيع قبل نهاية الشهر، كانت دائمًا راضية وكنت راضيًا برضاها.
صديقي القديم زارني بغتة ويحمل في يده هدية، ورقة مطوية (عقد عمل في الخارج) سعدنا بها برغم أننا نعلم أنها ستحيل زواجنا إلى زواجٍ مع وقف التنفيذ - زواج على ورق- شهر واحد فقط قضيته بصحبتها قبل اغترابي خارج البلاد واغترابها في غياهب الحياة ووسوسات القريبات على مدار ثلاث سنوات، لم أنسَ يومًا - في زحمةِ العمل - ملامحها المنمقة وصوتها الدَّافئ وسكون ولدي على صدرها...
عاد وجهي للتجهم، وصوتي للاختناق وعيني للذهول؛ ضجيجٌ قاتل ومازالت الحركة مستمرة، بل تتسارع وتيرتها ويزداد صراخ النِّساء وعويل الأطفال الصغار العالقين بأجيادِ الأمهات.
غرقتِ الطائرة في أصوات التَّكبير والتهليل والدُّعاء والنُّطق بالشِّهادتين، على يميني عجوز قابضٌ على مصحفه وقد جحظت عيناه وفمه يتمتم بما استطاع أن يتذكره من آيات القرآن، وعلى اليسار يربض صليبًا ذهبيًا في كفِّ امرأة تصطك أسنانها من فرط الرعب.
الطّائرة تهتزّ بقوة شديدة، لم أكن أعلم أنَّ للسقوط جلبةًوفحيحًا كفحيح أفعى غاضبة، ما أدهشني أنّي لم أشعر بألم قط، فقط صُمَّتْ أذناي لبرهة ثمَّ انطفأ النور في عيني؛ ما عدتُ أرى شيئًا أو أشعر بشيءٍ من حولي؛ لا أعلم كم مرَّ من الوقت حتَّى سمعتُ دقّات ساعة الحائطِ وفي عيني صورة مشوشة لتلفازٍ معلَّقٍ على حاملٍ أسفل تلك السَّاعة، مضبوط على إحدى المحطات الإخبارية المعروفة، وعلى لسان مذيعتها:
(ناجٍ وحيدٍ من حادثِ تحطمِ طائرة الركاب...)؛ تسللتِابتسامة صغيرة على وجهي وأنا أسترقُ نظرة مشوشة للممرضة الحسناء وهي تقول بصوتٍ أنثويٍّ ناعمٍ بالكاد أسمعه:
(حمدًا لله على سلامتك). تمت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ساعدنا برأيك كي نتطور